أخطأ صالح حين استخف باحتجاجات شبابية صغيرة نادت برحيله وسقوط نظامه- عقب سقوط نظام مبارك- في شوارع العاصمة انطلاقاً من جامعة صنعاء، والتي أخذت مع الوقت تنمو وتتسع لتشمل معظم محافظات الجمهورية، وإذا بتلك الحركة الاحتجاجية الشعبية الصغيرة التي قادها مجموعة طلاب وشباب الفيس بوك تتحول إلى ثورة حقيقية استقطبت غالبية قوى الشعب المدنية منها والعسكرية.
في تلك الأثناء كان صالح مايزال يتحدث بلسان الواثق من أن اليمن ليست تونس، وهي بالفعل ليست كذلك، لذا جاءت ثورتها مختلفة ومتميزة. وأخطأ صالح مرة أخرى حين لم يُحسن التعامل مع حركة الاحتجاجات المتصاعدة واحتواء مطالبها عبر الإصلاحات؛ فشرع بإخمادها مستعيناً بالبلاطجة، مفضلاً الحلول الأمنية على لغة التفاهم والحوار. وعندما قرر السماع لمطالب المحتجين والحوار معهم عبر لجنة حوار برئاسة رئيس الوزراء كان الوقت قد تأخر، فيما لم تثبت لجنة الحوار تلك أي قدر من المصداقية والجدية.. عندها عاد صالح لمزاولة هوايته في القتل بدم بارد، متخفياً وراء بلاطجته، موغلاً في دماء اليمنيين، ليسقط منهم في يوم واحد سبعة وخمسون شهيداً في ساحة التغيير بجامعة صنعاء، ظناً منه أن العالم لن يرى فعلته، وأن الشباب الذي يكافح لحياة أفضل سيفزع عائداً إلى البيت، لكن جريمته تلك أذكت لهب الثورة، وسلّطت أنظار العالم عليها، وأكسبتها مزيداً من الأنصار، فيما خسر صالح حلفاءه وانفضّ الكثيرون من حوله، وأخذ نظامه يتداعى.
وأخطأ صالح قبل ذلك حينما ظل يتلكأ ويُراوغ في تنفيذ الاتفاقات الموقعة مع أحزاب المشترك بدءاً من اتفاق المبادئ في 18 يونيو 2006م وحتى اتفاق 23 فبراير 2009م المعزز بالمحضر التنفيذي في 17 يوليو 2010م، وبينهما فشلت الكثير من جولات الحوار الذي عاد الرئيس ليطالب به اليوم. أخطأ صالح حينما اعتبر اتفاق فبراير خطأً تاريخياً وغلطة لن تتكرر؛ فقد وفر له الاتفاق فرصة تاريخية بكل المقاييس لإنجاز حوار ناجح والخروج بأفضل المكاسب التي كان بمقددوره انتزاعها بسهولة من معارضيه، وذلك عندما كانت المعارضة تلهث وراءه، قانعة بالقليل من التنازلات، راضية باليسير من المكاسب..
ساعتها لم يكن ليخطر في مُخيلة المعارضة أو يدور بخلدها أن يأتي اليوم الذي يلهث الرئيس وراءها مستجدياً ومستعطفاً ومتنازلاً! لم تكن المعارضة تتخيل- آنذاك- ولو لبرهة أنها ستصرخ يوماً في وجه صالح وتطالبه بالرحيل دون قيد أو شرط!! عندما كانت الفرصة متاحة بيد صالح فرط فيها ولم يغتنمها، وفضل عوضاً عن ذلك أن يوغل في إذلال المعارضة وامتهانها، بل وامتهان الشعب كله، ليعلن بتحدٍ وغرور وقف الحوار مع المعارضة والذهاب منفرداً إلى الانتخابات النيابية، وأتبع ذلك بحزمة تعديلات دستورية لقلع العداد، أو على الأقل تصفيره، بما يؤمّن استمراره على كرسي السلطة لدورتين رئاسيتين اُخريين، يكون خلالهما قد تمكن من تسوية الملعب السياسي وتهيئة أوضاع البلاد لاستقبال خليفته من بعده.
كان واثقاً من قدرته على إمضاء ما يريد، متيقناً من أن المعارضة (المتعقلة) ليست في وادي التحدي والصدام، وأن الشعب (المستكين) ليس في وادي الثورات التي ولّى زمانها، وذلك كان أحد أخطائه الفادحة التي أودت به وقادته إلى الوضع البئيس الذي يعانيه اليوم. لقد أمعن صالح في إذلال شعبه وامتهان قوى المعارضة واستهان بهما، وتعامل معهما باستخفاف كبير ولا مبالاة، وهو اليوم يجني ماغرسته يداه، ويتجرّع من ذات الكأس التي سقا منها غيره، ليكون الجزاء من جنس العمل.
وأخطأ صالح حين بالغ في تقدير قوته التي ظل يبنيها ويدخرها لوقت عصيب كهذا؛ إذ أثبتت التجربة أن القوة المدّخرة لم تكن بيده وحده ولا حكراً عليه، فقد تمكن الشعب من مشاطرته القوة ذاتها التي لوح بها في وجهه، واستطاعت الثورة سحب البساط من تحته وهددته بالزحف عليه، وخلقت توازن رعب، وحيّدت الجيش، وجعلت صالح يُحجم عن اللجوء إلى القوة العسكرية ويستعيض عنها بالبلاطجة، وهي ورقة أساءت إليه ولنظامه ونزعت عنهما المشروعية الأخلاقية والسياسية.
وأخطأ صالح حين راهن على التأييد والدعم الخارجي المحكوم بالموقف من الإرهاب، الذي جرى اصطناعه كضامن لاحتضان النظام خارجياً، وجلب الدعم له ومؤازرته ضد مناوئيه؛ فسرعان ما تغير الموقف الخارجي من النظام لصالح مناهضيه.. وللمرة الأولى يُجمع أصدقاء النظام وحلفاؤه على ضرورة رحيله قبل أن يتحول إلى مصدر تهديد ليس لليمن فحسب بل للأمن والسلم الدوليين. كما أن شركاء النظام وحلفاءه في الحرب على ما يسمى بالإرهاب درسوا وضع حليفهم جيداً وتوصلوا إلى حقيقة مفادها: الرئيس صالح الذي طالما أجاد اللعب بالكروت غدا كرتاً محروقاً غير صالح للعب، ومن غير المجدي الاحتفاظ به مدة أطول!! تلك هي قواعد اللعبة وحتميات المصالح. وأخطأ صالح حين راهن على شعبية (زائفة) في أوساط جماهير مطحونة، سحقتها جرعاته السعرية التي لاتنتهي، وأرهقها فساده وظلمه اللذان جثما على كاهل الشعب طيلة ثلاثة وثلاثين عاماً؛ فتلك الشعبية (المزعومة) التي يؤتى بها إلى ميدان التحرير وساحة السبعين، تتعيش من أزمة صالح وتبيعه الوهم.. إنها شعبية خادعة مدفوعة الأجر باهظة الكلفة، لا يعنيها بقاء صالح بقدر ما يعنيها كم ستحصل منه، لذا هي لاتقوى على مناطحة الثورة أو الصمود أمام طوفانها، ولا تقوى على تحرير صالح من خوفه وإعادة ثقته بنفسه.. إنها وهم يبيعه مقربوه له بأعلى الأثمان دون أن يجني من ورائه شيئاً.
صالح ومبادرة المشترك
قدم المشترك مبادرة سياسية لنقل السلطة لاتاحة الفرصة للرئيس صالح كي يتنحى بهدوء وبصورة مشرفة، وتجنبت المبادرة الإشارة لأبناء الرئيس وأقاربه نزولاً عند رغبة الشركاء الدوليين الذين استبد بهم القلق تجاه مصالحهم في هذا البلد نتيجة المخاوف المصطنعة من قبل صالح. مبادرة المشترك التي لم تلق قبولاً في أوساط شباب الثورة وبعض النشطاء السياسيين، لجهة عدم تعرضها صراحة لأبناء الرئيس وأقاربه، أرادت بالأساس إرسال رسائل تطمين للجوار وللمجتمع الدولي، وإزالة مخاوفهم تجاه ما يعتريهم من قلق إزاء رحيل نظام صالح والتداعيات المحتملة وبخاصة في ما يتصل بملف مكافحة الإرهاب، في الوقت الذي أرادت إحراج موقف صالح أمام شركائه الدوليين، وإظهار عدم رغبته في التعاون مع المعارضة والمضي سوياً في حل الأزمة.. علاوة على أن المبادرة كانت ضرورية- من حيث المبدأ- للخروج من حالة الجمود المسيطر على المشهد السياسي اليمني. وبصرف النظر عما قيل عن المبادرة، وما إذا كانت تُلبي تطلعات الثورة الشبابية على الوجه الأكمل أو لا، فقد أسقطها صالح سريعاً حين أوعز لقواته وبلاطجته باستئناف قتل المعتصمين في تعز والحديدة وصنعاء؛ حيث سقط في ثلاثة أيام فقط – عقب إعلان المبادرة- حوالي عشرين شهيداً وأكثر من ألفي جريح، ووصل الأمر حد محاولة اغتيال اللواء علي محسن الأحمر أمام بوابة الفرقة الأولى مدرع عبر خدعة الوسطاء، ذلك كان رد صالح على مبادرة المشترك.
المبادرة الخليجية
أنهى الخليجيون ترددهم، وأعلنوا موقفهم بوضوح تجاه نظام صالح، وقرروا التدخل عبر وساطة إقليمة بمساندة دولية لحل مشكلة نقل السلطة من الرئيس لنائبه، وتشكيل مجلس وطني يشمل كافة أطياف العمل السياسي وقوى المجتمع المدني في اليمن، بما في ذلك زعماء القبائل وشباب الثورة، وتقديم ضمانات بعدم التعرض لصالح وعائلته مستقبلاً. وبذلك لم يعد حلفاء النظام ومجموعة أصدقاء اليمن (المانحون) يخفون رغبتهم بتنحي صالح، بل لقد خطوا في هذا الاتجاه ووضعوا خارطة طريق لإنهاء المشكلة. وتم الأمر بالفعل في اللقاء الذي جمع وزير الدفاع الأمريكي بالملك السعودي في الرياض، وهو ما أسفر عن قدوم وفد خليجي إلى اليمن لدعوة الأطراف المعنية لبحث أزمة نقل السلطة في مؤتمر حوار يُعقد في الرياض، ما يعكس إجماعاً دولياً وإقليمياً على ضرورة بدء الخطوات الفعلية لتنحي صالح ونقل السلطة.. وبالتالي يمكن الجزم أن آخر أوراق صالح المتمثلة بالورقة الخارجية سقطت نهائياً، وأضحت ورقة ضغط مسلطة عليه.
وأمام هذا الموقف الدولي والإقليمي الذي توحد في مطالبة صالح بالرحيل وتسليمه السلطة لن يكون بوسعه الاستمرار طويلاً في مناوراته السياسية، ولن يكون أمامه من خيار سوى الإذعان للضغوط الخارجية، لكنه ربما يحاول الظهور بأنه يفعل ذلك- يتنحى- كاستجابة للمصلحة الوطنية العليا. والواقع أن المبادرة الخليجية تفتح لصالح نافذة خروج مشرف، وتجنبه مطالبات بدأت ترتفع بمحاكمته على تلك المجازر التي راح ضحيتها مئات القتلى وآلاف الجرحى من شباب الثورة، وهي فرصة ثمينة له سيكون من الخطأ الفادح تفويتها.
المبادرة الخليجية تعكس من جانب آخر وصول الشركاء الدوليين والمحيط الإقليمي إلى قناعة حقيقية- نتيجة دراسة مستفيضة للوضع اليمني الراهن- باستحالة استمرار صالح في الحكم بعد كل تلك التصدعات والانشقاقات التي أحدثتها الثورة وقادت إلى انهيار متسارع في نظام حكمه، وأن التغيير في اليمن بات أمراً لا مناص منه. والمرجح أنهم حصلوا على تطمينات من المعارضة بشأن استمرار تعاون اليمن مع المجتمع الدولي في مكافحة الإرهاب، وهو الملف الذي حاول صالح اللعب من خلاله لإثارة مخاوف حلفائه ودفعهم للتشبث به، لكن من الواضح أن المعارضة استطاعت تجاوز تلك المخاوف، وتمكنت من تقديم نفسها للأطراف الخارجية كبديل قادر على إدارة كل الملفات الشائكة والمتفجرة التي خلّفها هذا النظام، ويمكن القول كذلك أنها تخطت بنجاح عُقدة قبول المجتمع الدولي بها، وصارت شريكة له في بناء يمن جديد ومستقبل أفضل