رحيل فتى يافع تقيِّ صالح معلــق قلبه بالمساجد وهو صـائم لابسٌ إحرامـه !! ونماذج منه حيّـة في الديـن والــورع !!
طارق بن إحسان العتيبي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله أجمعين ، وبعد :
تعجز العبارات حقيقة ويضعف التعبير عن سرّ هذا الفتى وجميل خلقه وشدة تقواه ..
لكني أكتب شيئًا يسيرًا عما رأيته وعايشته معه في سويعات يسيرة .. فقد كانت مليئة بالدروس والمواعظ الجليلة .. وكيف لا يتعيّن علي الكتابة عنه وقد كنت آخر شخص يزوره محمد فكحّل عينيّ برؤيته وشنّف أذني بسماع صوته !!
لا أطيل عليكم فهذا الشاب من النوادر في هذا الزمان .. وهذه ومضات يسيرة عنه على شكل نقاط – وهي متداخله مع بعضها - ، فمن أبرز صفاته :
1- شاب معلق قلبه بالمساجد :
كنت يومًا من الأيام خارجًا من مسجد الجامعة الإسلامية في صلاة الظهر وإذ بي بشابَّين أمام المسجد ، الأول قديم فيها ، والآخَر - وهو صاحبنا – ( محمد ) حديث العهد بها ، بل كان قد جاء قبلها بيوم !
المهم أن الطالب القديم يكلم محمدًا - بإصرار شديد - تعال معي أوصلك إلى غرفتك ، فيرد محمد بإصرار أشد - وكأنه يُساق إلى الموت - : لا أبدًا ! لا أترك المسجد ، وسأبقى فيه ، وماذا أفعل في غرفتي ؟!
فقلت في نفسي لما رأيت هذا المشهد : أول الغيث قطرة ، والظاهر سنتعلم دروسا تربوية عملية من هذا الشاب لن نجد أثرها في قراءة مجلدات ! ( وإن لم يكن هذا الفتى الذي ترك راحته في عزَ الظهيرة وشدة الحر معلّق قلبه بالمساجد فمن ؟؟ )
*كنت أتأخر بعد صلاة العشاء في الحرم أحيانا بساعة وزيادة ، فأجده أمامي فأعرض عليه أن أوصله معي .. فيقول : سامحني أريد أن أتأخر في الحرم قليلاً وأقرأ !!
2- شابٌ كثير العبادة :
* صار الشاب تحت مراقبة عيني لأني علمت أن وراءه شيئًا كثيرًا .. فصرت إذا دخلت المسجد عند أذان الفجر - وهذا نادر مني للأسف - أجده رافعا يديه يدعو الله ويناجيه بتذلل وافتقار عجيبين !
* جاء مرة صاحبه في السكن مستنكرًا عليه عدم إيقاظه معه للصلاة ، فقال له : والله أيقظتك كثيرا وأنت لا تستقيظ ! فقال له صاحبه : كيف أستيقظ لصلاة الفجر قبلها بساعة ونصف !!
* كنت أمرّ في بعض الأحيان من الصفوف الأولى في المسجد النبوي فأجده هناك ، أبكّر لصلاة الجمعة أو أتأخر بعد أيام الأسبوع الأخرى الظهر فأجده وافقـا يصلي ويناجي ربه وقفة عابد له علاقة قوية مع ربه ، لا يلتفت يمنة ويسرة وتشعر أن قلبه كذلك متجه بجوارحه وقلبه على ربه .
* كان يصوم صيام داود عليه السلام فيصوم يوما ويفطر يومًا ، ولا يأكل في الغالب إلا تمرا يحتاج كسره ومضغه دقائق معدودة مع شرب الماء .
ولا أخفيكم أنني كنت لما أرى جِدّه واجتهاده في العبادة وتأخذ من وقته شيئًا كثيرًا .. جاء في نفسي كلام ابن الجوزي في تلبيس إبليس ، وكيف يلبس الشيطان على ابن آدم ويصرفه عن الواجبات .. فكنت أقول هذا سيضيّع فرصته في هذا البلد المبارك ، ولا يجتهد في العلم ، حتى جاء وقت الاختبار النهائي وإذ بي أفاجأ أنه من أوائل الطلاب المتفوقين ، حتى المادة التي خسفت بمعدل أكثر الشباب كان هو الوحيد فيما أعلم المتفوق فيها ..
3- شدة ورعه وتقواه :
• كنت مرةً جالسًا معه في الحرم ، فقلت له ضع الكتاب على الكرسي ( أو الطاولة) - يعني الذي يوضع عليه المصحف - لتقرأ عليه الحديث ، قال : لا ! هذه وقف للمصاحف وليست للكتب الشرعية !!
• تعطلت سيارتي – وهو على صغره صاحب خبرة بهذا المجال – فطلبت منه يأتي معي ليرى ما بها ، فركبنا سيارة أحد الزملاء الفضلاء ، وهما يعرفان بعضهما ، وفي الطريق يقول لي محمد هل كلمت الشيخ – يعني صاحب السيارة – لماذا ركبت معه السيارة ! قلت له توكل على الله ، الأمر ما يستحق، وكنت أظنه يمزح بهذا السؤال ، حتى كرّره مراراً فقال له صاحب السيارة نعم طارق استأذن لك وأخبرني أنك ستصحبه في مشواره ، فاطمئن وجلس هادئًا !!
وقد شاهد صاحب السيارة محمدًا وهو راجع من المسجد النبوي إلى الجامعة ماشيًا على قدميه ، وواجهه بذلك أمامي ، فاستحيى وقال : هذا حصل معي مرة أو مرتين فقط وأنا أحب أن أراجع في الطريق
قلت : ولعل هذه الهمة العالية مستمدة من قيامه لليل { إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا }.
• اشتغل مرة في سيارة يصلحها واحتاج لقماش ، فقلت له هذا الاسفنج استعمله – وهو مطروح في الشارع – فقال : لا أستعمله ! أخشى أن أصحابه يحتاجونه ، حتى أقنعته بعدم الفائدة منها فاستخدمها مُكرهًا.
وأذكر مرة أنه كان يجلس في الصف الأول في الحرم ، جلست معه للمذاكرة في صفوف متأخرة ، وقلت له احجز مكانك فرفض ! ثم لما انتهت المذاكرة وأراد الوضوء رفض أيضـًا أن يحجز شيئًا مكان جلوسه !!
4- تفانيه في خدمة إخوانه :
• مرَّ ذات يومٍ من أمام سكني بعد العشاء بساعة ، فظننت أنه ذاهب لغرفته في الوحدة الخامسة عشر ، فقلت له – وكان ذلك في أول أيام تعرفي عليه – هل لك أن تضع ملابسي هذه معك في المغسلة فقال : نعم وفرح بذلك ، وقلت له تعطيني الفاتورة لاحقا .. ، فبعد وقت إذ بي أفاجئ أنه عاد إليّ ليعطيني الفاتورة ! فقلت له لماذا رجعت ؟؟ فقال : أنا أصلا أريد أن أرجع للمسجد فكتبُي فيه – وسكني بجانبه - ، فقلت له لماذا وافقت على الذهاب ومشيت لأجلي فقط !! ، فأشعرني أنه مستمتع بذلك ، فصمتُّ واستحييت من نفسي على هذا الموقف وتمنيت أنه لم يحصل .
وكما مر سابقًا فإنني لم أحتج إليه لحظة لإصلاح سيارتي إلا بادر رحمه الله بالمجيء معي مع ضيق وقته .
وقال لزميلٍ لنا وكان قد استقدم زوجته معه في المدينة ، قال له \" نحن نصرف على أنفسنا فقط ، ولا نصرف على أحد أما أنت فتصرف على غيرك ، فبالله عليك إذا احتجت أي شيء أخبرنا فنحن يزيد عندنا المصروف \" يقول الزميل والله ما قالها لي أحد من أصدقائي المقربين ألبتة .
5 – قصة موته بعد أن صام ولبس إحرامه :
التقيته في يومه الأخير – رحمه الله – في صلاة الظهر والذي كان فيه صائمًا ، فعرضت عليه أن يصحبني للعمرة ، وكنت أتمنى من زمن بعيد صحبته عن قرب لأرى عبادته وشأنه في كامل يومه ، ولأجل ترغيبه في ذلك قلت هناك سكن مؤمَّن إن شاء الله ، فاعتذر وقال أصلا أنا ما أحب أن أخرج من الحرم ، أحب أن أنام وأبقى في الحرم لا أخرج منه ، قلت له : كما تحب ، وذهبت لغرفتي للقيلولة ، فجاءني في شدة الحر من سكنه البعيد ليقف عند رأسي ويوقظني من نومي ويقول لي : استخرت الله تعالى وقررت الذهاب معك لأني تذكرت أنني معك أستطيع أن أطبق السنة أكثر ، فقلت له أبشر ، ثم بعد وقت يسير صار عندي ظرف اضطررت معه أن أتصل عليه وأعتذر منه عن الذهاب لمكة ، فقبل اعتذاري بكل صدر رحب ، وقال لي توكل على الله في مشوراك ، وأصلا أنا ذاهب بدونك .
ثم في منتصف الليل جاءني ومجموعة من الزملاء اتصالٌ مفاده : أن أخاكم محمد رياض قد ضربته سيارة على رأسه وهو في الميقات أصيب على إثرها بنزيف شديد في الدماغ ، وهو في العناية المركّزة في مستفى الملك فهد ، وفي وضع حرج جدًا .
فخيّم الصمت لحظات على جميع الإخوة من هول الخبر ، ثم بعد وقت تبسّم بعض الإخوة الفلسطيينين فيما بينهم ، فقلت لهم وماذا عندكم ؟ قالوا : نحن جلسنا أشهرًا نغدو ونروح للسفارات ولإكمال الأوراق الرسيمة للمجيء للجامعة ، ومحمد انتهى منها في يوم واحد !! وهذا الأمر يكاد يكون مستحيلا إلا إذا عرفت أنه كان مع الله في سائر حياته فكانت المعونة الإلهية وحدها معه في ذلك اليوم !!
ثم عند صلاة الفجر جاءنا خبر وفاته ، وذلك يوم الخميس 3 / 5 / 1432 .
وقد صلينا عليه في نفس اليوم صلاة المغرب وكان إمامنا الشيخ صلاح بدير - وفقه الله تعالى- وشيّعه عدد كبير من طلاب الجامعة وبعض مشايخه الذين بدا على محيّاهم جميعا التأثّر برحيل هذا الفتى مبارك .
هذا غيض من فيض من سيرته العطرة في هذه الأشهر اليسيرة التي عرفناه فيها، ولعل غيري من الزملاء يذكر موقفاً له لعله يجد قبولا عند شخص ما فيؤثر فيه ويغير حياته .
ولا يفوتني أن أعرّف بهذا الشاب ليفتخر به أهله وبلده ..
فاسمه : محمد بن رياض بن عبد الله البوم ، يرجع جمّاعيلي ، من قرية قريوت من ضواحي نابلس .
العمر : عشرون سنة /الدراسة : السنة الأولى في كلية الحديث في الجامعة الإسلامية .
نسأل الله أن يرحم أخانا محمدًا رحمة واسعة ، وأن يجمعنا معه في مستقر رحمته .
[img]
[/img]