من الذاكرة السياسية: الجنوب ..وضياع الفرصة الذهبية!!
منصور بلعيدي
مقالات سابقة
- صوت الأمة
- الحراك، والإصلاح ، وتيس الأعمى!!
- الانتخابات الرئاسية .. بوابة اليمن إلى المستقبل.
- اغتيال شارع !!
- وللطلاب نصيبٌ من المأساة
حين نال الجنوب استقلاله من المستعمر البريطاني في الثلاثين من نوفمبر1967م كان الشعب الجنوبي يعيش حالة من الفقر يصل إلى درجة العوز في بعض المناطق وكان التعليم في أدنى مستوياته على مستوى الوطن العربي ونسبة الأمية مرتفعة جدا( 90%) وحتى القيادات الثورية التي استلمت الحكم من بريطانيا هي الأخرى لم تكن بمنئا عن حالة شعبها من التخلف العلمي والمعرفي .. كانت كلها تقريبا لا تمتلك مؤهلات علمية كبيرة ويكفي أن نعرف أن رئيس الجمهورية نفسه لا يمتلك أكثر من مؤهلات الثانوية العامة وقس على ذلك..لكن القوى الكبرى تسارعت إلى استقطاب السلطة في الجنوب وكانت روسيا هي من فاز بالجولة إذ استطاع أنصارها بقيادة عبد الفتاح إلى تحويل مسار الثورة والسلطة إلى النهج الاشتراكي رغم انف سالمين ومجموعته التي غلبت على أمرها في المؤتمر الرابع للجبهة القومية المنعقد في مدينة الشعب بمحافظة عدن في ابريل عام 1972م.
ولعبت الحرب الباردة بين القوى الكبرى – حينها- دور كبيرا في جر الجنوب إلى أتون ذلك الصراع الدولي فأخرجها عن مسارها العربي وقاد إلى عزلتها عن محيطها العربي وتعامل معها العرب بحذر.. ومن طريف ما يذكر أن الرئيس سالمين ذهب إلى الصين يطلب المساعدة لشعبه فقال له الزعيم الصيني (كيم ايل سنج) كم تعداد سكان بلدك؟ فأجاب: اثنين مليون.. فرد علية قائلا: ها تهم ألينا وسنسكنهم في( براق )واحد وتصرف عليهم الدولة..طبعا كانت مزحة ثقيلة استطاع سالمين إن يردها للزعيم الصيني حين قدم له الطعام ومعه (كؤوس الخمر)فرفض سالمين شرب الخمر قائلا: لا يليق بي أن اشرب الخمر وشعبي لم يستطع شرب الماء النقي حتى الآن.
لقد كانت قلوب الجنوبيين حينها صفحة بيضاء تنتظر رسام مبدع يرسم عليها لوحة رائعة لمستقبل شعب تواق إلى الحرية والانعتاق خرج للتو من ربقة الاستعمار، تشرأب أعناق أبناؤه إلى بناء وطن خاليا من الاستعباد .. وطن الحلم بالحياة الحرة الكريمة التي ينشدها الجميع .. ينطلق فيه الناس من قيود الماضي واساره البغيضة الى فيحاء الحياة الرحبة متسلحين بهمم الشباب وآمال المستقبل الوضاء الذي افتقدوه كثيرا ابا ن مرحلة الاستعمارالبغيض.. شعب كان صافيا نقيا مستعدا لبذل اقصى التضحيات في سبيل النهوض باوضاع الوطن ليرتقي الى مصاب الدول المتقدمة .. انه الشعب الوحيد في العالم كله الذي يساعد حكومته الوليدة ويطالبها بتخفيض معاشات ابنائه بغرض بناء الاقتصاد الوطني الذي كان في الحضيض.. ومن طريف ما يذكران الشعب خرج في مسيرات عارمة فيما سمي بـ (الايام السبعة) مطالبين بتخفيض الرواتي دعما للاقتصاد الوطني المتهالك ، وحين مرت احدى المسيرات بالشارع الرئيس في المعلا كان احد المصريين يقف مدهوشا من حماسة الجماهير لكنه لم يفهم ما يقولون فسأل زميله اليمني قائلا: هما عمالين بيزعقوا بيقوا ايه؟ فاجابه اليمني قائلا: يطالبون بتخفيض الرواتب.. فرد المصري باهتمام قائلا: امال اذا زيدوهم قرش حيعملوا ايه!! لقد كانت الكثير من المشاريع الوطنية تقام بالمبادرات الشعبية الطوعية .. وقد رايت بنفسي كيف كان افراد القوات المسلحة يشاركون في جني محاصيل القطن من مزارع الدولة في ابين حين كان الانتاج غزيرا والعمالة محدودة ، ورايت الطلاب والموظفون وهم سشاركون في المبادرات الجماهيرية بروح وطنية عالية لم ار لها مثيلا في حياتي ورايت المبادرات الجماهيرية في ميناء عدن - لتفريغ حمولة السفن من المواد الغذائية - تستمر ليلا ونهارا حتى يتم افراق حمولة البواخر كما ان المعدات الخاصة بالقوات المسلحة هي الاخرى كانت تفرغ بالمبادرات الطوعية للجيش ، كما يشارك ابناء القوات المسلحة في انشاء بعض المشاريع الوطنية ولم نسمع عن أي تذمر اوضيق بسبب هذه المشاركات لان الجميع كانت عندهم روح وطنية عالية وهم يؤدون تلك الاعمال بمنتهى الاريحية.. ولو ان النظام السياسي القائم حينها ادرك اهمية هذه الروح الوطنية وعمل بمقتضاها لكان الجنوب اليوم هو من يهرع اليه لا العكس.
لكن النظام السياسي –حينها- خذل الجنوب ورمى به في احضان الصراعات العمياء حين سيطر عليه جناح الشيوعية فأدخل المجتمع في دوامة الصراعات وانتشرت الاحقاد والاطماع في الاستيلاء على مقاليد السلطة وتحولت السلطة الى مغنم يتصارع عليه الطامعون للوصول الى كرسي الحكم الذي كان هو مصدر الجاه والمال فتحولت الساحة الجنوبية الى ميدان للاستقطاب الحاد بين الاجنحة المتصارعة داخل التنظيم السياسي الجبهة القومية الذي تطور فيما بعد الى حزب ..وتحولت القبائل الجنوبية الى قبائل ماركسية كل قبيلة تخطط للفتك بالاخرى تحت مظلة الاشتراكية وفي حقيقة الامر هي قبائل ترتدي عباءة الاشتراكية وتفكر بعقليات قبلية فلا فهم حقيقي للاشتراكية ولا ايمان حقيقي بها ولكنها اتخذت كسوط أو سيف يضرب به كل فريق خصمه فكانت الانقلابات كل خمس سنوات ، وهذا ما اضعف الجنوب واورده الموارد. مازلت اتذكر حضورنا ونحن طلاب في المرحلة الابتدائية الى مدينة الشعب للحشد للمؤتمر الرابع للجبهة القومية عام1972م..ومازلت اتذكر كلمات الرئيس الشهيد سالمين حين طل علينا من شرفة مبنى قائلا: (ما أشبه الليلة بالبارحة)وكأنه يشير الى صراع الرفاق على اتجاه السلطة وقد حسمها اتجاه فتاح الى الشيوعية وغلب اتجاه سالمين الى الدول العربية..
وخذلوا تلك الجماهير العفوية ..
وضاعت الفرصة الذهبية . ..والنتيجة معروفة للجميع.