الصراع
العربي الإسرائيلي لا يقف عند البعد السياسي، وليس محكوماً بالبعد
العسكري، فهناك أبعاد أخرى قد تكون أشد أثراً وأكثر فاعلية في ديمومة هذا
الصراع وتحولاته وتداعياته على المستوى الإقليمي والصعيد العالمي، سواءً
لصالحنا أو لصالح الصهاينة، كالبعد
الاقتصادي أو الإعلامي أو
الثقافي. فليس خافياً أن البعد العسكري قد تم تحييده باتفاقية كامب ديفيد
المجُحفة عام 1979م بين مصر وإسرائيل، كونها كبلت يد العرب وأطلقت يد
العربدة اليهودية في المنطقة العربية، والبعد السياسي قد انتهى إلى مشروع
ما يسمى بـ(التسوية السلمية)، الذي انطلق علناً من مؤتمر مدريد عام 1991م،
ووقع باتفاقية واشنطن عام 1993م بعد مفاوضات سرية في أوسلو النرويجية، كما
أن البعد الاقتصادي فقد تأثيره تماماً بعد إنهاء المقاطعة العربية للمنتجات
الإسرائيلية على مستوى العالم، أما البعد الإعلامي فليس له أدنى تأثير
إيجابي لصالح العرب بحكم اعتماد إسرائيل الكامل على آلة الإعلام الغربي
الفاعلة عالمياً، فيكفي أن صور المجازر الإسرائيلية بحق الفلسطينيين على
كثرتها لم تصل لعيون العالم والشعوب الحرة.
خلاف ما سبق يبقى البعد
الثقافي في الصراع العربي الإسرائيلي حاضراً بقوة، وما زال يُشكل مصدر قلق
فعلي لدولة الكيان الصهيوني، وعامل نصر وتمكين في يد العرب والمسلمين متى
ما استثمر في حربهم المستمرة مع العدو الصهيوني، كون الثقافة تمثل الوعاء
الفكري للإنسان العربي المسلم في مواجهة المنطق الإسرائيلي، وهي اللغة
الحضارية للشعوب العربية والمسلمة لمخاطبة العالم عن القضية الفلسطينية،
والمخزون المعرفي الذي يحفظ كل أدبيات ومفاهيم الصراع مع اليهود والمرجعية
الدينية الحاكمة لهذا الصراع، فضلاً عن أن الثقافة تعزز بقاء ذاكرة الأجيال
عن كل الأحداث والصور والأماكن والشخصيات الخاصة بالقضية الفلسطينية. لذلك
حاول الصهاينة اختراق البعد الثقافي والتحكم في بوصلته لصالح أهدافهم
الإستراتيجية من خلال ثلاثة اتجاهات عملية وفاعلة وببطء متقن، الأول
التواصل مع بعض المثقفين العرب، الذين يعتقدون أن التطبيع الثقافي بين
العرب وإسرائيل يمكن أن يُنهي الصراع بينهم ليكونوا أبواقاً للدعاية
الإسرائيلية دون أن يشعروا مثال (جماعة كوبنهاجن)، والاتجاه الثاني محاولة
استقطاب أهل الفن من مطربين وممثلين للمشاركة في مهرجانات إلى جانب
إسرائيليين، سواءً داخل فلسطين المحتلة، أو خارجها، بدعم منظمات وهيئات
غربية، فسمعنا عن ممثل سافر إلى إسرائيل ومطرب رقص مع إسرائيلية.
أما
الاتجاه الثالث وهو الأخطر كون الاتجاهان الأولان يتمان على المكشوف، فهو
تغيير مسميات معالم الأرض الفلسطينية وتراثها الديني كي يسهل طمس حقائقها
التاريخية الثابتة، وبالتالي إلغاء الشاهد على عروبة الأرض وإسلامية القضية
الفلسطينية. وهنا نلاحظ أعمال الحفريات الجارية تحت المسجد الأقصى، ومسلسل
التهويد المستمر لأحياء القدس القديمة، لكن غير الملاحظ هو تبديل الأسماء
الفلسطينية ذات الخصائص الدينية بأخرى يهودية كما في تسمية حائط البراق
بـ(حائط المبكى)، أو بأسماء إسلامية كإطلاق اسم المسجد الأقصى على مسجد قبة
الصخرة. وللأسف إن ذلك يتم ثقافياً وبوسائل إعلام عربية مختلفة. فمن
النادر أن تجد صورة تتردد للمسجد الأقصى ذي القبة الفضية، بينما تجد صورة
مسجد قبة الصخرة ذي القبة الذهبية والعمارة الإسلامية ذات اللون الأزرق
حاضرة في إعلامنا، لدرجة أن هذا التزوير الثقافي وصل إلى المسئولين
والمثقفين الفلسطينيين أنفسهم، فتجد صور مسجد قبة الصخرة تعلو جدران
مكاتبهم، كما توضع خلفية في ديكورات استوديوهات التصوير في مقابلاتهم
التلفزيونية، وهذا الفعل سيؤدي لا قدر الله إلى مسح الصورة الحقيقية عن
المسجد الأقصى في الذهنية الجماهيرية العربية والمسلمة، وبالتالي يفقد هذا
المسجد المبارك موقعه الديني في وجدان الأمة عندما يتعرض لأية أعمال
عدوانية أو إجرامية من قبل اليهود، فلن تتأثر العيون أو تحزن النفوس لغياب
التواصل الذهني بين الصورتين الحقيقية في الواقع والمطبوعة في الذاكرة عن
هذا المسجد أولى القبلتين ومسرى المصطفى عليه الصلاة والسلام.
والحال
ينسحب على مسألة تزوير اسم حائط (البراق) إلى حائط المبكى كما عند اليهود
والإعلام يردد ذلك، وحائط البراق هو الحائط الذي يحد المسجد الأقصى من
الجهة الغربية، وسمي بذلك نسبة إلى البراق، الدابة التي ركبها الرسول صلى
الله عليه وسلم في مسراه من مكة إلى القدس، وربطها عند هذا الحائط ثم صلى
بالأنبياء عليهم السلام قبل أن يُعرج به إلى السماء، واليهود تُعظم هذا
الحائط لأنها تعتقد أنه الأثر الباقي من معبد هيكل سليمان المزعوم، فأصبح
مصلى لديهم، حيث تتم أمامه طقوس الحداد والبكاء على خراب الهيكل. ومحاولة
اليهود في إثبات أن هذا الحائط جزء من معبدهم يمهد الطريق لهم لإقناع
العالم بمسألة الهيكل المزعوم، وبالتالي تبرير جريمة هدم المسجد الأقصى،
خاصةً أنهم لم يستطيعوا إثبات ذلك أيام الاحتلال البريطاني لفلسطين، حتى أن
البريطانيين أصدروا الكتاب الأبيض عام 1928م وفيه إبقاء الحالة الراهنة
بالنسبة للأماكن المقدسة، الأمر الذي اعتبره اليهود اعترافاً بحقوق
المسلمين المقدسة.
فهل نعي حقيقة الحرب الثقافية التي يشنها اليهود
على مقدساتنا ومعالمنا التاريخية في فلسطين؟ التي تعد الشاهد الحقيقي على
أن فلسطين هي أرضنا ووقفنا الإسلامي الذي لا يجوز التناول عنه بأي شكل من
الأشكال.